عزالدين ميهوبي إعترافات تام سيتي 2 عين الزانة رواية ROMAN

Transkript

1 عزالدين ميهوبي إعترافات تام سيتي عين الزانة رواية ROMAN

2 عنوان الكتاب : اإعرتافات تام Sسيتي 2039 عنوان اجلزء :2 عني الزانة النوع : رواية املوؤلف :عز الدين ميهوبي الطبعة الأوىل : ديùسمرب 2007 املطبعة : دار ثالة الناTشر :منûشورات ثالة - اجلزائر تüصميم الغالف و الإخراج الفني: خالد بوزنون الإيداع القانوين : ردمك : الربيد الإلكرتوين للموؤلف azzedinehodni@gmail.com املوقع الإلكرتوين للموؤلف حقوق الطبع محفوظة ملنشورات ثالة... األبيار اجلزائر طبع هذا الكتاب يف إاطار تظاهرة )اجلزائر عاUصمة الثقافة العربية 2007(.

3

4

5 1 المكان: تام سيتي التاريخ: 1 يناير 2040 الساعة: 6.37 صباحا فتحت دفتر الرجل األنيق ورحت أقلب الصفحات األولى فلم يكن بها سوى عدد من صور شارل دي فوكو بلباس الرهبان. وفي الصفحة الثالثة عشرة كتب بحروف عربية "بسم اهلل الرحمن الرحيم" وبقية المخطوط كلها كتبت باللغة الفرنسية. ولفت انتباهي اختيار صاحب المخطوط فقرة وردت على لسان دي فوكو يكررها في كل صفحة نصها كالتالي "فك ر أنك ستموت شهيدا. مسلوبا من كل شيء ممددا على األرض عريانا مشوها مضرجا بالدم والجروح مقتوال بعنف وضراوة.. وت ق إلى أن يتم كل ذلك". لم أفكر في قراءة نص المخطوط أول األمر ألنني خشيت أن يظهر صاحبه وما كان علي أن أطلع على 5

6 أسراره ولو كانت كالما ال معنى له. وعندما قلبت الصفحة الخامسة عشرة بدأ الصفحة بما يلي: إسمي أنطوان مالو ولدت في 12 ديسمبر 1953 بمدينة أميان بفرنسا... قلت في نفسي إنه الرجل الذي وجدته ميتا في قاعة االعتراف.. وما دام الرجل في ذمة مواله فما الذي يمنعني من قراءة المخطوط فربما ترك وصية أو أمرا يمكن تبليغه لذويه. انزويت في ردهة قاعة اإلسعاف وأغلقت المخطوط. وبقيت أتأمل الوجوه الغادية والرائحة في أروقة وبهو المستشفى وال تسمع منها سوى أسكرام باالس. أسلمت نفسي للنوم قليال وامتدت إلي هواجس وكوابيس لم أستعد منها سوى غربان تحوم حول بئر ال ماء فيها وامرأة نصفها األسفل يغطيه ريش أبيض وقليل من السواد. وكنت أجري في العراء وأصرخ أسكرام.. أسكرام.. أسكرام. ولم أفق إال على السائق محمود وهو يدفعني بيده: - -سي محمد.. سي محمد.. الساعة التاسعة ونصف. قمت فزعا. ابتسم وقال لي وكأنه ال يأبه لما كنت فيه من تعب وإرهاق. - -هذي أختي مريم.. - -مرحبا. ونظرت إلى مالمح وجهها وكأنني أسعى ألن أرى فيها تين أمود. لم تكن تشبهها قط. ولم يتوقف محمود عن الكالم وكأنه ابتلع شريطا مسجال عليه روايات الليبي إبراهيم الكوني الذي أقام له التوارق تمثاال في مدينة جانت ألنه كتب عنهم أعماال كثيرة. عني أنا لم أقرأ منها شيئا لكنني 6

7 شاهدت فيلما سينمائيا اسمه "المجوس" مأخوذا من بعض أعماله الروائية. قال محمود: - -قلت فرصة ألعرفك عليها زوجها.. - -قلت لي إنه شرطي. قاطعته لكنه استمر. - -يشتغل في أباليسا منذ ثالث سنوات ولهما ثالثة أطفال ذكور وبنت تدرس الطب في عنابة. - -وأنت قلت له وأنا أرى ابتسامة عريضة من اخته. - -أنا.. ال شيء أعيش داخل سيارة إسعاف ال دار ال دوار ال امرأة وال أوالد.. بعد أربعين عاما هل يمكن لالنسان أن يكون زوجا في رأيك. - -ال أدري. ألنني مثلك إنما الفرق بيننا أن لي أربعة جدران ومن أنقذهم أنا تسعفهم أنت. لم أسمع صوت الممرضة أخت محمود كانت تكتفي بابتسامة سألتها: - -أما زال الدكتور يحي اسماعيل في مصلحة األمراض الصدرية - -هو مسؤولي المباشر.. - -تعرفت إليه أيام الوباء الذي تعرضت له قرية قريبة من عين قزام. رجل طيب. - -صحيح.. لهذا لم يقم بيتا وأوالدا مثلكما أنت ومحمود. - -قدر الطيبين أن يعيشوا كاألنبياء ويموتوا كالجرذان. قلت لمحمود وأنا أقف ببطء فقد شعرت بإعياء كبير. - -هل يمكنك أن تأخذني إلى البيت. 7

8 - -هذه وظيفة محمود. TGV واستدرت إلى الممرضة. - -بلغي سي يحي سالمي.. قولي له صالح النازا وسيفهم كل شيء. ولم تمض سوى دقائق حتى وجدت نفسي أمام البيت بينما اختفى محمود عن نظري. كان مستعجال ذاك طبعه. غسلت وجهي وأعددت قهوة سريعة وأنا أتابع أخبار الحريق الذي التهم أسكرام باالس. حصيلة نهائية أوردتها المصالح الطبية لتام سيتي تمثلت في موت تسعة من نزالء الفندق وجرح مائة وثمانية وستين نزيال. وأما مدير الفندق هوسمان فما يزال فاقدا للوعي بإحدى عيادات الجزائر العاصمة المختصة في أمراض القلب. جلست على أريكتي المطلة على الشارع حيث كانت الشمس ترسل بعض أشعتها إلى الشرفة. ارتشفت فنجان قهوتي وشرعت في تصفح المخطوط. الصفحة الخامسة عشرة. اسمي أنطوان مالو ولدت في 12 ديسمبر 1953 بمدينة أميان بفرنسا توفي أبي جان بيار في حرب الجزائر في معركة عين الزانة بمنطقة سوق أهراس في 14 يوليو 1959 حيث شن الجزائريون هجوما على المركز العسكري الذي يضم عددا من الجنود الفرنسيين بينهم أبي جان بيار ولم يصلنا خبر موته إال بعد أحد عشر يوما هكذا سمعت من أمي كاترين التي قضت حياتها مصابة باكتئاب عميق إلى أن ماتت 8

9 في العام 1993 بعد تعرضها لنزيف حاد في الدماغ. هي تحبه وتحتفظ بصورة كبيرة له ببزته العسكرية قريبا من السرير. وكانت تقبل الصورة كل ليلة قبل النوم وبعده. كانت تقول لي كلما رأتني أقوم بالتحية العسكرية على سبيل الدعابة "جدك أوليفيي هو السبب.. كان عسكريا طول حياته وعمل في الصحراء يحب بزة الكاكي والنياشين وهو من زرعها في ابنيه جان بيار وجول األول مات قتيال والثاني يقضي حياته معطوبا بعد إصابته في انفجار لغم بمدغشقر.. جدك هو السبب.". كانت أمي تحقد على جدي وال تحب لقاءه حتى في ذكرى موت أبي وكان يقول باعتزاز "جان بيار لم يمت غرقا في بحر أو بسبب السل والمالريا. مات من أجل فرنسا في يوم 14 يوليو المجيد وهو يوم تذكره فيه األمة الفرنسية بأكملها.". صار كالم جدي يتكرر عاما بعد عام إلى أن مات في صمت ولم تقم له فرنسا جنازة األبطال المنتصرين كما كان يأمل دائما ويقول "من حارب في الصحراء ألجل فرنسا فلن تكون جنازته أقل من تلك التي أقيمت للويس الرابع عشر". ال أذكر جيدا أنني أحتفظ بصورة لي مع أبي إال مرتين. األولى في عيد ميالدي ولم أكن جاوزت الثالثة والثانية قبل أن يستدعى للعمل في الجيش بالجزائر وعمري خمس سنوات. عشت حياة عادية جدا ففي أميان الصغيرة تعرف العائالت بعضها بعضا وتعتز بمقاومة األلمان النازيين. 9

10 لم أكن أعرف الجنرال شارل ديغول إال عندما بلغت العاشرة فكثيرا ما كنت أسمع جدي ينظر إلى صورة الجنرال ويقول "كنت عظيما أيها الرجل.. وعندما تركت الجزائر ألولئك الفالقة لم تعد تختلف عن الماريشال بيتان..صحيح للعظمة وجهها اآلخر هو الخيانة". كنت أشبه بمن ولد يتيما أب مات بعيدا وأم تعيش في اكتئاب وأنا الطفل الذي لم تمنحه الدنيا سوى الحرمان. لم يكن لي أصدقاء في طفولتي. وحدها ماري روز كانت تبادلني كثيرا من الشقاوة. ماري روز الشقراء الصغيرة أبوها معلم بمدرسة فيكتور هيغو وأمها موظفة بالبلدية كانت تأتي إلى بيت جدي المطل على مزرعته التي يكثر فيها البط والدواجن األخرى وتحدثني عن أبيها الذي كثيرا ما كان يضرب أمها عندما يطلب منها أن تقرضه ثالثين أو أربعين فرنكا فترفض فهو مدمن قمار يشتكي منه الجيران وله كثير من القضايا في المحاكم بسبب اعتدائه على الناس. كان عمر ماري روز تسع سنوات بينما كنت في الحادية عشرة. في مثل هذه السن كنت أرى عائالت جديدة تفد إلى أميان ولم أعرف السر. كان الناس يستقبلونهم بحفاوة وعندما تنتهي مراسيم اللقاء ينزوي سكان أميان في المقاهي والحانات ويشرعون في انتقاد الحكومة التي جلبت هؤالء الذين يطلق عليهم "األقدام السوداء". 10

11 كنت في أول األمر أنظر إلى أقدام هؤالء الوافدين الجدد إلى أميان ثم أسأل جدي "لكن أقدامهم ليست سوداء" فيرد علي بما ال أفهمه "عندما تكبر.. حينها تعرف لماذا أصبحوا يسمون أقداما سوداء وقد ذهبوا إلى الجزائر وأقدامهم أكثر بياضا.. ديغول هو السبب." ال شأن لي بما فعله ديغول وال من جاء بعده. لم تكن لي هوايات غير االستماع إلى اسطوانات الموسيقى الكالسيكية في جهاز فونوغراف يملكه جدي في مكتبه. وكان ليلة كل أحد يدعوني ألسمع معه سيمفونيات كبار الموسيقيين األوروبيين أمثال شوبان وموزار وتشايكوفسكي وحتى فيردي. ولم أكن أفهم في البداية تلك الموسيقى التي تتداخل فيها آالت كثيرة وكنت أحب سماع داليدا وأزنافور وإديت بياف. لكن جدي أقنعني بأن من يسعى لتهذيب أذنيه في السماع فما عليه إال أن يستمع لكبار الموسيقيين في العالم. جدي كان عسكريا حتى في ضبط ذوق اآلخرين. قال لي أحب موسيقى شوبان فلم أجرؤ على قول ال ودعاني إلى أن أستمتع بروائع بيتهوفن. ولم يكتف بهذا بل أهداني في عيد ميالدي الثاني عشر قيثارة صغيرة جعلتني أحب الموسيقى أكثر. كنت أقلد بعض اإليقاعات وأسعى ألن أقنع نفسي أن لي موهبة بحاجة إلى دعم ومساعدة. لم تأخذ القيثارة شيئا من تعلقي بالدراسة. وفي السابعة عشرة اجتزت امتحانات دخول الجامعة بنجاح كبير. ولم يحدث أن رأيت جدي سعيدا مثلما رأيته في ذلك اليوم الذي أبلغته فيه بنجاحي. 11

12 راح يحضنني ويبكي. سألته: - -ما الذي يبكيك - -تمنيت لو أن أباك كان حيا فيفرح. - -أنا لم يعد يحزنني غيابه.. ألنني ال أشعر بشيء اسمه العائلة أب ميت وأم فاقدة الوعي وجد يعيش مع الماضي. لم يقل جدي كلمة وانصرف خارج صالون البيت. ففهمت أن كالمي أغضبه. ولم أحاول االعتذار. ال معنى للفرح إن لم تره في عيون اآلخرين. وماري روز هي ذلك اآلخر الذي انتظرته مثل بابا نويل. جاءتني في آخر المساء ومعها باقة ورد وقليل من الشوكوالطة. كأن الدنيا ال تسعها. قبلتني بحرارة فكانت المرة األولى التي شعرت فيها بمعني الحب. ربما هي تحبني وأنا ال أفهم ذلك. لم أنتظر طويال وسألتها إن كانت تقبل مرافقتي إلى سينما "كوليزي" لتشاهد معي العرض األخير لفيلم "ذهب مع الريح". قالت لي: - -إن كانت هناك من ترفض مرافقة شاب وسيم مثلك وتضييع فرصة مشاهدة فيلم كهذا فهي ال تصلح ألي شيء. وخرجنا إلى شوارع أميان ال تسعنا الفرحة حتى أنني قلت لها ونحن ندخل حانة منزوية في شارع مسدود: - -ما رأيك لو مارسنا شيئا من النزق والغوايات التي ال نعرفها - -ال مانع عندي ألنني سليلة أب حرفته هذه.. لم أقل شيئا وسحبت من جيبي صورة ألبي في كتيبة 12

13 عسكرية بالصحراء. قالت لي ماري روز: - -كان وسيما.. - -وال يعرف له قبر.. إنه في تلك البالد.. صارا جزءا من ترابها.. - -آسفة.. - -عن أي شيء تأسفين.. أبي مات وأمي تعيش اكتئابا مزمنا وجدي غارق في نياشينه.. وأنت وحدك من يمنحني السعادة.. ما رأيك في أن نحتسي القدح األول ونرقص - -ال أجيد الرقص.. إنما سأرقص. - -وأنا ال أجيد الشرب إنما سأشرب. دخلنا الحانة فلم يكن بها خلق كثير. نظر النادل إلينا نظرة تنبئ بعدم رضاه عن وجودنا ثم سألني وهو يفرك يديه ثم يمسح شاربيه ويحرك سيجارة مطفأة بين شفتيه يمينا وشماال: - -كم عمرك أنت - -بعد عام يصبح ثمانية عشر عاما.. - -بعد عام - -وثالثة أشهر ويومين.. - -وأنت أيتها الجميلة فاحمر وجه ماري روز ولم تجب. فرد النادل بابتسامة عريضة: - -من منكما الناجح في االمتحان انفتحت أساريري واستعدت حضوري كواحد ممتلئ الرجولة. - -أنا طبعا وبدرجة عالية. 13

14 - -في هذه الحال سأمنحكما شرابا مجانا إنما ال تكثرا منه فلن تعرفا طريق العودة. - -ال تخف.. لن تضيع منا الطريق ألننا سنذهب لمشاهدة "ذهب مع الريح".. - -ملعون كارل غيبل في هذا الفيلم.. لقد علمنا كيف نقبل نساءنا. فانكفأت ماري روز مرة أخرى على نفسها ولكن النادل واصل كالمه دون أن يهتم كثيرا لحال ماري: - -كنت معلما للغة الفرنسية ولكن موت أبي عجلت بخروجي من الوظيف والتحقت بهذه الحانة.. هي ملك ألبي لكنني قبل النوم أقرأ كثيرا من الشعر وأحب ما كتبه اللورد بايرون. هل تعرفه - -ال.. - -وأنت - -ال. غضب النادل وكأن ردنا لم يقنعه وقال بصوت فيه كثير من األسف: - -يقول بايرون: تمنيت لو أن للنساء فما واحدا لقبلته واسترحت. ثم انفجر ضاحكا وهو يمأل كوبين كبيرين من الجعة اإليرلندية. - -ما قاله بايرون هو اختزال لفيلم "ذهب مع الريح".. اشربا واستمتعا بوقتكما وبالفيلم.. إنما ال تضيعا طريق العودة إلى البيت. كم كان نبيال هذا النادل ذو الجسم الممتلئ. فهمت منه أنه أراد أن يقاسمنا شيئا من الفرحة الغائبة. 14

15 اخترنا زاوية قاتمة وطاولة عتيقة يميل لونها إلى السواد تتوسطها ورقة كتب عليها: يمكنك أن تشتري سكنا لكن من الصعب الحصول على الهناء ويمكنك أن تشتري سريرا لكن ال يمكنك أن تحصل على النوم ويمكنك أن تقتني ساعة لكن ال يمكنك أن تكسب الوقت ويمكنك أن تشتري كتابا لكن ليس سهال الحصول على المعرفة ويمكنك أن تصل إلى موقع ما لكن من الصعب الحصول على االحترام ويمكنك أن تسدد مصاريف الطبيب لكن ما أصعب الحصول على الصحة ويمكنك أن تشتري الدم فهل من السهل الحصول على الحياة. أخرجت ماري ورقة وراحت تدون هذه الحكمة وتقول لي ضاحكة: - -سأبدأ بالحكمة األولى ألصل إلى الحكمة األخيرة. قلت لماري روز وأنا أحدق في عينيها: - -تعرفين.. اليوم صرت رجال.. - -أما أنا فبقي أمامي عام وسبعة أشهر وستة أيام ألكون امرأة كاملة.. - -أنت أكثر من امرأة أنت تسعين الكون كله. - -يبدو أن صاحبنا النادل جعلك تشعر أنك بايرون أو تكاد.. 15

16 - -كل إنسان يحمل في داخله بايرون.. ال يمكن ألحد أن يتصور الحال التي كنت عليها فهي المرة األولى التي أجالس فيها امرأة قريبة من سني. أعتقد أنها تحبني أو هكذا يتهيأ لي. لم أشأ التكلم معها في حياتها البائسة فأنا أعرف عنها ما ال تعرفه هي عني. أجزم أنها تحبني فهي تتحسس يدي بين الحين واآلخر. سألتها إن كانت ترى في اختياري لمزاولة دراستي في القانون أمرا مقبوال لكنها نصحتني بدراسة الموسيقى لكثرة اهتمامي بها وبرموزها. - -سأجرب.. - -وأما أنا فسأدرس الصيدلة. - -الصيدلة أيضا كالموسيقى األولى أساسها تركيب كيمياوي دقيق ينتج عنه دواء للجسم والثانية تعتمد على نوتات موسيقية مترابطة ينتج عنها دواء للروح والمزاج.. - -قلت لك إن بايرون بدأ يفعل فعله بداخلك.. تحدثنا في كل شيء مفيد وغير مفيد. روت لي نكتا وأحجيات وأعدت عليها قصة حذاء ساندريال وكلمتني عن خالتها التي تزوجت إحدى عشرة مرة في ثالثة أعوام فأسمعتها من قصص جدي ما جعل عينيها تبدوان وكأنهما خرجتا من مأتم ثم راحت تسرد أمامي أسماء األطفال الذين كانوا يعاكسونها عند باب المدرسة ولم أذكر لها فتاة واحدة عاكستها ألنني لم أعرف غيرها. امتد بنا الحديث طويال وكنت ألمح بين الفينة واألخرى النادل وهو يسترق نظرة منا ثم يبتسم. 16

17 نظرت ماري إلى الساعة وراحت تضحك. - -الفيلم - -ذهب مع الريح.. - -أعرف. - -ماذا تعرف - -أعرف أنه "ذهب مع الريح". - -أنظر إلى ساعتك وستعرف أنه ذهب فعال مع الريح.. - -يا اااه.. حظ تعيس. - -سنشاهده في العام المقبل في يوم نجاحي.. - -في ذلك اليوم سأعزف لك سيمفونية رقصة البجع.. ولتذهب كل األفالم مع الريح أو إلى الجحيم. دعينا نكمل سهرتنا.. أحببت الحياة كثيرا وصرت أرى ماري نقطة الضوء التي تمنحني السعادة وتدفعني إلى مزيد النجاح. كنا أشبه بيتيمين. صرت وطنا لها وصارت وطنا لي. تعرف همومي مثلما أعيش همومها. هي تحبني كما لم تحب جولييت روميو. وأنا أحبها كما أحب بايرون نساء األرض. في ذلك اليوم عدت إلى بيت جدي وكانت الساعة جاوزت الحادية عشرة ليال. لمحته واقفا خلف نافذة غرفة مكتبه تحت ضوء خافت. كان ينتظرني. طرقت الباب طرقا خفيفا. وانتبهت إلى أنه شبه مفتوح فدلفت برأسي وأنا أتوقع ضربة عصا من يد جدي. ولم أكد أغلق الباب خلفي حتى أطل برأسه ولم يكن غاضبا من تأخري هذا ما شعرت به وهو ينظر إلي. بقيت واقفا في مكاني أبحث عن حجة 17

18 أتعلل بها لكن صوت جدي قطع كل تفكير: - -كيف كانت سهرتك - -يعني.. - -هل أعجبتك - -السهرة - -ماري.. يا غبي. أربكني كالم جدي إلى الحد أنني حاولت الهروب منه والصعود إلى غرفتي في الطابق العلوي لكنه أوقفني بعصاه: - -إن كانت تحبك فال تتركها.. وإذا كنت تحبها فاعمل حتى ال تتركك.. - -ال أدري.. - -أنت تحبها إذن. - -وهي لم تفصح لي عن ذلك - -ليس في أول يوم يا غبي.. - -ولكنني.. - -قلت لك إنه أول يوم.. ورحلة الحب تبدأ بقبلة. هل قبلتك - -ما يشبه القبلة.. - -ال تتركها إذن.. وليلة هادئة. صرت في حيرة من أمري فكأن الذي كان يكلمني بتلك اللهجة لم يكن جدى. جدي ذلك الرجل الذي نشأ عسكريا وبقي على عقيدة الثكنات بعد السبعين.. جاءتني جانيت الخادمة التي تسهر على راحة أمي منذ وفاة أبي وفي عينيها شيء كالدمع: - -أنا سعيدة لنجاحك.. لكن أمك أكثر سعادة

19 - -لم أجد حيلة ألجعلها تعرف أنك نجحت سوى أن كتبت لها جملة في ورقة "أنطوان نجح وسيدخل الجامعة". لم تقل أي كلمة وراحت تحضنني وتبكي كطفلة صغيرة. - -أمي فعلت هذا.. - -ثم راحت تحضن صورة أبيك. فأسرعت نحو أمي. كانت تترقبني هي المرأة التي فقدت كل إحساس بالحياة. لم أجرؤ على االقتراب منها كأنما أصابني شلل. تقدمت نحوي بخطى متثاقلة وما إن صارت على نصف متر مني حتى ألقت بكامل جسمها النحيف علي وأرسلت صرخة مدوية اهتزت لها أرجاء بيت جدي العتيق. وراحت تقبل وجهي وجبيني ويدي وصدري.. وتضمني نحوها وال أسمع غير اهتزازات صدرها العامرة بالحب والفرح. سمعت وقع أقدام على السلم. لم يكن غير جدي. تقدم نحونا وبقي واقفا ينظر إلي أنا وأمي. رفعت أمي عينيها في جهة جدي فلم يلبث أن انهار كجدار. أسرعت نحوه فأمسكت بي أمي ونطقت بكلمة واحدة "دعه". صعب موقف كهذا. قبلت جبين أمي وتقدمت نحو جدي الملقى على األرض. - -سامحني يا جدي.. هي ال تقصد إيذاءك. - -جان بيار لم يكن ابني وحدي.. كان زوجها. - -اتركوه يرتاح بعيدا.. عادت أمي إلى فراشها. وخرج جدي بينما كانت جانيت تنظر من خلف نافذة الشرفة ممزقة القلب ال تقوى على فعل شيئ. 19

20 لم تكن تلك الليلة عادية. فالفرحة تصنع األلم أحيانا. لم أنم. ورحت أستعيد مالمح ماري روز في الحانة والشارع وعلى الجسر الحجري الخاصة بالراجلين. ولم يتوقف رنين كلمة دعه التي تفوهت بها أمي فقد كانت آخر كلمة أسمعها منها إلى أن ماتت بعد عشرين عاما من صمت قاتل. كنا أربعة في ذلك البيت جدي وأمي وفيوبيت وأنا وقطة نطلق عليها "كارمن". إنما كان البيت عامرا بالذكريات. في أول أيام دخولي المعهد العالي للموسيقى سألتني ماري روز عند عودتي في آخر المساء. - -هل توجد فتيات في المعهد - -كثيرات.. - -وهل بينهن من تشبهنني - -ال أعرف.. هناك أشكال وألوان. هل تغارين - -ال.. ولكنني أخاف عليك. - -من النساء - -ال.. من هذا الذي يحدث في باريس واحتجاجات الشباب التي ال تتوقف.. - -تقصدين أتباع هذا المسمى دانيال كوهن بينديت.. - -كل الجامعات تهتف باسمه وتنادي بسقوط الحكومات وتلعن السياسيين.. - -ال شأن لي بهم. - -ابق إذن في عالم بايرون. فتحت ماري روز عيني على شوارع باريس الملتهبة 20

21 ال- حيث خرج آالف الطالب في حالة من الرفض والتمرد والعصيان يرددون أغاني البيتلز ويبصقون على أولئك الذين يقولون لهم ال تنسوا أن للمجتمع أعرافا وأخالقا.. خرجوا حفاة عراة ال تكفيهم أطنان من ورق التوت. سمعت أحدهم وهو يتكئ على سور المعهد: - وصاية ألحد علينا.. قلت له وأنا أحاول أن أفهم ماذا يقصد بالضبط: - -أي وصاية تقصد - -كل الوصايات في البيت والشارع.. - -لم أفهم. - -ألنك تحت الوصاية.. - -وصاية من - -وصاية أمك أو عشيقتك.. فلم أتمالك نفسي وصفعته ثم ركلته قبل أن يتدخل طالبان كانا قريبين منا. ولم يقل شيئا واكتفى بابتسامة وتعليق أخير: - -عندما تتخلص من الوصاية ستعرف كيف تحترم اآلخرين. كنت أسمع من جدي كل مساء حديثا طويال عن الوطنية وحب فرنسا وبلغ به األمر مرة أن قال لي هل أريك شيئا مما كتبت في العام 1946 عندما كنت في جزر المارتينيك مكلفا بتدريب الدفعات األولى من الجندرمة. وجاءني بمخطوط فيه أشياء عجيبة كشفت لي عن الوجه اآلخر لجدي الكاتب المسرحي. وراح يقرأ أمامي مقطعا من مسرحية "إمبراطور في المنفى" جاء فيها ما يلي: 21

22 العام 1821 المكان: سجن جزيرة سانت هيالنه األبطال: نابوليون بونابرت وحارسه جوزيف )نابوليون يتكئ على سرير في حالة إعياء( نابوليون: تعال يا جوزيف.. لم يعد لي في هذا العالم غير هذه الجدران اللعينة.. وأنت أيها الحارس الطيب.. أشعر أنني لن أكمل معك الرحلة.. الحارس: ال.. أيها اإلمبراطور المعظم.. نابوليون: عظمة اإلمبراطور ضاعت في واترلو.. خانني أصحابي.. لم يعرفوا معنى المجد..يريدون أن يمحوه بأيديهم.. الحارس: المجد ال يمحى أيها اإلمبراطور.. نابوليون: تمحوه الخيانة.. وأنا لم أخن فرنسا.. تعال واسمع.. هذه وصيتي.. )سعال شديد.. وعرق يتصبب( الحارس: هل أحضر الماء.. نابوليون: ال فائدة.. فعلها الخونة.. هذه وصيتي.. اقرأها.. اقرأها.. الحارس: لو كنت أحسن القراءة ما كنت حارس سجن.. نابوليون: تعرف يا جوزيف "في هذا العالم توجد قوتان السيف والفكر والفكر هو المنتصر دائما.." هل فهمت.. الحارس: شيئا ما.. نابوليون: أوصي بأن يرمى رماد جسدي على ضفاف نهر السين في وسط الشعب الفرنسي الذي أحببته 22

23 كثيرا.. الحارس: أنا أحبك يا نابوليون.. نابوليون: قلها مرة أخرى.. الحارس: نعم أحبك أيها اإلمبراطور.. نابوليون: أنت آخر من أسمع منه هذه الكلمة التي من أجلها أعلنت الحرب على العالم.. من أجل فرنسا.. )يحاول الوقوف( الحارس: ال تتحرك.. أنا معك هل تريد شيئا نابوليون: أريد سرج حصاني.. وتلك النياشين.. الحارس: سأحضرهما حاال.. ال تتحرك من مكانك. )يتجه الحارس نحو السرج الملقى أرضا ويأخذ النياشين الملتصقة بسترة نابوليون العسكرية( الحارس: هل تريد شيئا آخر نابوليون: أجلس بجانبي.. )يقلب السرج على كل الجهات( نابوليون: تعرف يا جوزيف.. هذا السرج انتقل بين النمسا وبالد روسيا ومصر.. وها هو ينام معي في سانت هيالنه.. الحارس: هل لي أن أحتفظ به.. نابوليون: بشرط.. أن تعيد غزو أوروبا كلها.. الحارس: يكفي أن أغزو سانت هيالنة.. نابوليون: وهذه النياشين.. أعرف أن الخونة من جنراالت فرنسا سيعلقون بعدي أضعاف ما علقته أنا.. هي لك يا جوزيف فاحتفظ بها ألنك ستكون آخر من يراها وهي على صدري.. )ويلبس السترة بنياشينها(.. 23

24 الحارس: وهل تأذن لي بتعليق النياشين على صدري نابوليون: قلت لك احتفظ بها.. وعلقها إن شئت.. فكل شيء كذب في كذب. الحارس: سأكون أسعد الناس لو علقت جزءا منها.. نابوليون: واآلن هل آن أن أقرأ الوصية الحارس: أنا أستمع إليك.. )يقرأ نابوليون وصيته بكلمات متقطعة وفي إعياء( نابوليون: أوصي ابني بأال يحارب ضد بلده أو يكون سببا في إذالل بلده.. أوصيه بأن يأخذ بنصيحتي : كل شيء يهون من أجل الشعب الفرنسي.. )يواصل القراءة بكلمات متقطعة والحارس يساعده ويقدم له الماء( الحارس: ال ترهق نفسك يا نابوليون.. نابوليون:) ينظر إلى الحارس مبتسما(.. فعلها أبناء الكلب.. الحارس: من تقصد نابوليون: أنت ال ذنب لك. الحارس: معذرة أيها االمبراطور إن تجرأت وناديتك نابوليون ألنني أشعر بعد هذه السنوات التي قضيتها معك في هذه الجزيرة البعيدة أنني أصبحت صديقا لك.. نابوليون: نعم نحن أصدقاء يا جوزيف.. فكالنا سجين وسجان. )يصمت قليال( الحارس: ما لك يا نابوليون.. نابوليون: أعطيت فرنسا كل شيء.. وخانني 24

25 أصحابي.. أنا أسامحهم وليسامحهم الشعب الفرنسي.. الحارس: كم هو كبير قلبك يا نابوليون.. نابوليون: كل القلوب كبيرة إال قلوب الجبناء فهي أضيق من عيون الطير.. الحارس: أنت حكيم يا نابوليون.. نابوليون: تمنيت شيئا واحدا ولم أحققه.. الحارس: ما هو نابوليون: أرسلت الكولونيل فانسون بوتان قبل ثالثة عشرعاما ليجمع معلومات.. )يسعل ويزداد إعياء(.. الحارس: هل أجلب لك الماء نابوليون: بوتان كان يملك ذكاء خارقا.. الحارس: ال أعرفه ولم أسمع به. نابوليون: طلبت منه ذلك بعد أن عدت من مصر.. قلت له أريد كل شيء عن قوتهم وتحصيناتهم.. الحارس: تقصد ماذا نابوليون: آه يا تاليران خذلتني.. وأنت يا الفاييت هزمتني.. أما أنت يا مارمون فلم تكن ذلك الرجل الذي حسبت.. الحارس: ألم تسامحهم نابوليون: بونابرت سامحهم.. فرنسا قد تسامحهم.. أما التاريخ فال أعرف.. )يزداد العرق( جوزيف.. أشعر برعشة كبيرة في قدمي.. أمسك قدمي.. )يتقدم جوزيف.. ويمسك قدميه في حالة إرباك شديد( نابوليون: أنا حزين يا جوزيف.. حزين ألنني 25

26 سأموت بعيدا عن باريس.. حزين ألنني لم أصل إلى هناك.. لم أجعل من القراصنة عشائي األخير.. أنا حزين يا جوزيف.. الحارس: لست وحدك الحزين.. يا نابوليون. نابوليون: ليسوا رجاال إذا لم يصلوا إلى هناك.. الحارس: إلى أين نابوليون: إلى حيث لن تنكسر سفن شارلكان مرة أخرى.. ولن ينعم القراصنة بخيرات البحر وحدهم.. الحارس: تقصد نابوليون: )يشير برأسه( ذاك ما أقصد.. )ويغمى على نابوليون.. ويموت( الحارس: )في حسرة( العظماء يموتون مرة واحدة.. لكنهم يظلون أحياء دائما. وينتهي المشهد. التفت إلى جدي فدمعت عيناه بينما حاول إخفاء ألم مكبوت. وسحب من خزانته صندوقا معدنيا وقال لي: - -ما لم يفعله نابوليون.. فعله أبوك. في هذا الصندوق تنام أسرار أبيك البطل. اقرأ رسائله وستعرف أنك ابن رجل لن يتكرر أبدا. أخذت الصندوق من يدي جدي بينما استدار جانبا واستلقى على سريره وأشار إلي بيده أن اخرج. خرجت وأغلقت الباب. وأنا أحس بأنني أحمل بين يدي أثقال الدنيا. وصعدت السلم وكأنني اتجه نحو قمة كليمنجارو. أوصدتبابغرفتيجيدا.وعلىطاولتيالقديمة وضعت الصندوق وفتحته بعد أن أوجست خيفة مما فيه. 26

27 كومة من األوراق والصور والرسائل وهدايا صغيرة وخواتم نحاسية. وضعت األوراق على الطاولة ورحت أتأمل الصور. أبي ببزته العسكرية إلى جانب مجموعة من الجنود في منطقة جبلية. صورة أخرى ألبي بلباس البحر كتب على ظهرها "صيف 1957 بشاطئ عنابة". صورة ألبي مع بعض أصدقائه الجنود في الجزائر وقد دون في هامشها "القصبة سبتمبر 1953 "صورة ألبي في منطقة صحراوية مع بعض رفاقه من الجنود وعلى ظهر الصورة كتب "فبراير الصحراء" وصورة كبيرة الحجم يظهر فيها أبي وهو يرفع العلم الفرنسي في ساحة إحدى الثكنات وقد سجل على جانب الصورة المالحظة التالية "صورة أخذت لي أثناء تخرج دفعتنا: تولون- مارس 1953". ثم وضعت الرسائل جانبا وشرعت في ترتيبها حسب تاريخ إرسالها. أكثر من ثالث عشرة رسالة. كتبت كلها بحبر أسود وتبدأ كل رسالة بأبي العزيز والرحمة على روح أمي الطاهرة. الرسالة األولى. الجزائر 23 سبتمبر.1953 أبي العزيز والرحمة على روح أمي الطاهرة. وصلنا يوم الخميس إلى ميناء الجزائر بعد أربعة أيام قضيناها في البحر قادمين من ميناء تولون. الطقس بارد جدا والمدينة جميلة وتشبه امرأة تفتح ذراعيها الستقبال شخص تحبه. 27

28 أخذونا إلى ثكنة األميرالية الواقع قريبا من حي القصبة العتيق. هذا الحي الذي زرناه في اليوم الموالي حيث األزقة الضيقة الملتوية اآلخذة في صعود نحو األعلى أو هبوط نحو البحر وشدتني كثيرا تلك المباني المتكئ بعضها على بعض وال يفصل بينها سوى أعمدة خشبية تمنحها نكهة معمارية مختلفة تماما. سكان القصبة ما زالوا محافظين على مالبسهم التركية العتيقة والنساء كلهن مدثرات في قماش أبيض يغطي أجسادهن وال تظهر من وجوههن سوى العيون. وقبل مغادرتنا المكان سمعت صوتا يرتفع من مكان قريب فأخبرنا مرافق لنا وهو يهودي أنه صوت المنادي للصالة عند المسلمين مثل أجراس الكنيسة عندنا إنما الفرق أن العرب يقولون كالما أما نحن فنسمع النواقيس. وانتبهت إلى أن كثيرا منهم يحثون الخطى نحو بناء قريب. وأضاف مرافقنا أن المنادي يرفع صوته خمس مرات في اليوم منذ الفجر حتى بدء الليل. شيء ال يصدق. في اليوم األول استكشفت شيئا من المدينة التي دخلها دي بورمون قبل مائة وثالثة وعشرين عاما. كانت مدينة جميلة وأجمل ما فيها أن الفرنسيين صاروا يشعرون فيها أنها ملك لهم وجزء من تاريخهم هكذا قال لنا مرافقنا اليهودي. في األسبوع األول تم تقسيم كتيبتنا إلى أربع فصائل أرسلت كل فصيلة إلى جهة محددة. األولى إلى تلمسان والثانية إلى سطيف التي شهدت تمردا 28

29 في ماي 1945 والثالثة إلى متليلي وكنت ضمنها والرابعة تم إبقاؤها في الجزائر. عندما سألت عن موقع متليلي من العاصمة الجزائر قال لي الرقيب إيف مارون وهو األقدم في األميرالية إنها قريبة جدا وتكفي ثالثة أيام للوصول إليها ففهمت أنها في الصحراء. وأنا أكتب إليك هذه الرسالة ألطمئنك على حالي أتهيأ للرحيل إلى متليلي. ادع لي يا أبي باسم من تحب. ولن أكون بحاجة إلى أن أوصيك بعزيزتي كاترين وأنا أتشوق إلى سماع خبر ازديان فراش عائلتنا بمولود جديد. وإلى رسالة أخرى إليك قبالتي الحارة أيها العسكري النبيل. مالحظة: مع الرسالة صورة لي في القصبة. محبكم جان بيار سمعت طرقا خفيفا على الباب فأسرعت إلى إخفاء الصندوق والوثائق تحت غطاء السرير ثم تماسكت وفتحت الباب كانت جانيت تحمل كوبا من الليمون. - -أعرف أنك سهران.. هذا الليمون يخفف من قلقك. - -ادخلي.. جانيت. - -الساعة قاربت منتصف الليل.. - -ال شأن لي بالوقت.. ادخلي. - -جدك.. - -ال شأن لي بجدي.. دخلت جانيت وجلست على كرسي خشبي قريب من 29

30 الباب وهي تنظر إلي وكأنني أريد بها أذى. - -جانيت.. أريدك أن تكلميني عن أبي. - -عن أي شيء - -عن كل شيء. - -أمك كانت كل شيء بالنسبة إلى أبيك. وأنت كنت كل شيء بالنسبة إلى أمك. - -وجدي تحدثي.. ليس هناك ما يخيفك. - -جدك.. جدك.. كان كل شيء بالنسبة إلى تاريخه. - -هل أخبرتك أمي عن عالقتها بأبي.. أقصد هل تحاب ا قبل الزواج - -أكثر من الحب.. كان الواحد منهما مجنونا باآلخر هكذا قالت لي في األسبوع األول من ميالدك. أخبرتني أنها كانت تتهيأ لدخول مدرسة المعلمين بأميان عندما قابلت ذات صباح جان بيار قريبا من الجسر الحجري وكان متجها نحو محطة القطار. - -أريدك أن تذكري كل شيء بالتفصيل الممل أريد أن أسمع قصة كاترين وجان بيار. - -أنت تحرجني.. - -أين الحرج في أن يسمع اإلنسان قصة حب أبيه وأمه - -أعرف أنها ستكون آخر ليلة لي في هذا البيت.. - -لن تكون.. احكي لي. - -كانت أمك فائقة الجمال.. 30

31 - -وما زالت.. - -وكان أبوك وسيما إلى الحد الذي جعل سوزان ابنة رئيس بلدية أميان تحاول االنتحار ألجله عندما رفض مبادلتها مشاعر المحبة في الثانوية فتم طرده.. - -ألنه رفض االرتباط بعالقة مع ابنة رئيس البلدية. - -وألن جدك بصق في وجه رئيس البلدية منتصرا لجان بيار. - -وبعد في أكتوبر 1952 على ما أذكر كانت كاترين طالبة في السنة األخيرة في مدرسة المعلمين. ت وفي أبوها بعد إصابته بالسل عند عودته من األلزاس حيث شارك قبل ذاك في الحرب العالمية الثانية وتكفل بها أخوها كلود إلى أن تزوجها أبوك. - -هل كان أبي يحبها - -قلت لك كان الواحد منهما مجنونا باآلخر.. ويكفي أن تعرف هذا من وضع أمك منذ أكثر من خمسة عشر عاما.. - -هل حضرت عرسهما - -لم أكن على صلة بهذا البيت لكن أمك أخبرتني أنها عندما التقت أباك المرة األولى على الجسر بادلته التحية كما هي عادة أهل أميان فرد عليها إنما زاد عليها كلمتين كانتا كفيلتين بتغيير مجرى حياتها حيث قال لها "صباح الخير" وتوقف لحظة ثم قال "هل تقبلين أن أكون الجسر الذي تدوسه قدماك " فابتسمت بلباقة وردت عليه بما لم يكن 31

32 ينتظر "وهل تقبل أن أمنحك قبلة مقابل ما قلت " فاحمر وجهه وقال لها "إنك تمنحين هذا الطفل ما ال يجرؤ أن يطلبه منك لو كان يعرفك." فابتسمت وقالت "أنت أحق بالقبلة من أولئك الذين يجرون وراءها لمجرد نزوة.. خذها ودعني أكمل طريقي" ومرة ثانية تربك كاترين جان بيار فال يملك إال أن ينظر في كل االتجاهات ثم يتقدم نحوها ويقبلها على خدها األيمن ويبقى الواحد منهما ينظر إلى اآلخر في حالة انبهار بما وقع. لكن جان بيار كسر تلك اللحظة بأن أخبر كاترين أنه تعرض إلقصاء في الثانوية فقرر دخول الجيش بعد أن تم قبوله في كلية القوات البرية وأخبرته كاترين أنها تستعد لدخول مدرسة المعلمين. وشعر االثنان أن تلك اللحظة لن تكون عابرة في حياتهما. وافترقا على قبلة ثانية. - -وبعد.. - -قالت لي أمك إنها لم تنم تلك الليلة وظلت مفتحة العينين تعيد شريط لقاء الجسر الحجري ولم تفهم لماذا تصرفت مع جان بيار بمثل تلك العفوية وتطلب منه ما فشل في تحقيقه عشرات الشباب الذين كانوا يطلقون عليها اسم "غريتا غاربو" للشبه الكبير بين أمك وساحرة السينما وكذا لتسريحة شعرها الشبيهة بها. وانتظرت لعل شيئا يصلها منه وانتظر هو أيضا شيئا يصله منها واستمر كل واحد ينتظر اآلخر. ولكن الذي حدث أن كاترين التي منحت جان بيار قبلة على الجسر الحجري أخبرت أخاها كلود أنها ترغب 32

33 في زيارة صديقة لها في مارسيليا واتجهت إلى تولون حيث جان بيار يقضي األشهر األولى لفترة التدريب العسكري. - -تقصدين أنها ذهبت من أميان إلى تولون.. - -كان ذلك عشية أعياد الميالد.. وأخذت معها باقة ورد انتقتها وردة وردة. وكانت تروي لي تفاصيل هذا اللقاء وكأنني أشاهد فيلما سينمائيا. قالت لي كنت أنظر إلى جان بيار وهو يمشي في رواق طويل فيه حركة ذهاب وإياب. لم يكن يعرف زائره. كان يبدو وهو يرتدي بزة رمادية أشبه برائد فضاء قادم من رحلة بعيدة. أتأمل حركات قدميه المتناسقة وقلبي يخفق للقائه. إنني مجنونة. هذا الرجل ال أعرفه إال من لقاء عابر وصرت أغرق في بحر من األسئلة التي ال جواب لها ففي كل خطوة لجان بيار أزداد قلقا. ما الذي جاء بي إلى هذا المكان قد يكون الرجل نسيني. أو ربما هو على عالقة بامرأة أخرى. إنني مجنونة. علي أن أرحل قبل أن يراني. هكذا كانت تردد كاترين قبل أن يدرك جان بيار المكان الذي يلتقي فيه الزوار الجنود الخاضعين لفترة التدريب. كان عشرات الزوار من عائالت وأقارب الجنود يحملون باقات ورد وهدايا وفواكه. وكنت وحدي في أقصى اليمين أتحرق لرؤية جان بيار وأصاب بخيبة عندما أفكر في العواقب. هو ال يعرفني جيدا. التقينا على جسر ذات صباح فاعتقدت أن الرجل لي. وصل جان بيار وراح ينظر في وجوه الزائرين والزائرات لم يبصر هذا الوجه الذي 33

34 منحه قبلة في صباح بارد. ثم تقدم بخطى بطيئة وعيناه تبحثان عن الزائر غير المعلن. ولم أتمكن من اختراق ذلك الموقف الصعب. إنني مجنونة فعال. وما أقوم به ال يصدر إال عن امرأة مخبولة. لم أتمالك نفسي وأسرعت نحوه أضمه وأهمس في أذنيه "سامحني.. إن لم أخبرك بمجيئي ألنني ال أعرفك جيدا.. اآلن صرت أعرفك.. شكرا ألعياد الميالد التي حملتني إليك من أميان إلى تولون".. وانتبهت إلى أن جان بيار لم يكن يعرف من تكون هذه المرأة التي تضمه إلى صدرها. رفعت رأسها وإذا بجان بيار يهتف بأعلى صوته "شكرا لها أيها الجسر الحجري." وظال متعانقين طويال. قالت له وهي في ذروة السعادة: - -سامحني.. - -كان علي أن أبعث لك رسالة أو أي شيء.. - -بل كان علي فعل ذلك. - -لم يبق أمامي سوى شهرين ألنهي فترة التدريب المغلق. - -أنا ما زلت في فترة التحصيل النظري األولي. - -كيف تركت أميان - -فارغة منك.. - -وستزداد فراغا بغيابك.. - -لم أشأ أن أراك تقضي عيد الميالد المجيد دون شموع أميان الساحرة. وأعطته باقة الورد وبعض الشموع الملونة ثم أخرجت من معطفها الرمادي علبة صغيرة. - -إن أعجبتك الهدية احتفظ بها وإذا لم تعجبك 34

35 فليس أمامك إال البحر ارمها فسيبتلعها. فتح جان بيار العلبة وبقي ينظر إلى الهدية كانت صليبا حوله قلبان. قالت كاترين: - -إنه من الذهب.. - -سيظل معلقا على صدري حتى الموت.. - -أعجبك إذن.. - -ليس أكثر منك.. وراحا يتنقالن جيئة وذهابا في رواق الثكنة ويتبادالن حكايات وأحالما وأشياء جميلة بدأت تتشكل بينهما. سألها: - -هل تقبلين الزواج مني - -ليتك تقبلني.. - -ال أعرف إن كان هناك من أحب امرأة في اليوم األول ودعاها إلى الزواج في اليوم الثاني.. - -وارتبطا بحب وثيق ورباط مقدس طول العمر. أنا أحبك. - -وأنا ال يكفي أن أحبك بل سيكون زواجنا في أول زيارة لي ألميان بعد انتهاء فترة التدريب. - -هل يقبل أبوك - -ما دمت عسكريا فلن يرفض أبدا.. ثم ال تنسي أن له حسابا مع رئيس البلدية. وسيفرح كثيرا لو أخبرته بما أرغب فيه. - -وأنا لن أجد مانعا. فأخي كلود يحبني وال يقف في طريقي أبدا. - -أنت جميلة يا كاترين.. - -وأنت حلو ووسيم.. - -هل أسمعك شيئا مما كتبت 35

36 - -أنت لست شاعرا.. - -في أثناء الرحلة من أميان إلى تولون لم أبرح الجسر الحجري فرحت أكتب كالما أحسبه شيئا من الشعر أحتفظ به في جيب سترتي وأقرأه كلما تذكرت أميان وكاتدرائيتها وبرجها العالي وأهلها والجسر.. وأنت. - -أنا جاهزة لسماع ريمبو العسكري. أخرج جان بيار ورقة بدت وكأنها سقطت من مخطوط قديم وشرع يقرأ: لم يكن بيننا موعد.. لم أكن شاعرا حينها.. لم تكن حينها عاشقه لحظة حارقه حين ألقت علي التحية قلت اجعليني إذا شئت جسرا ودوسي عليه بنعليك حتى المساء هو جسر النساء وأعطيتني قبلة لم أكن أعرف الحب حين رأيتك حين سمعتك حين طبعت على خدك المتورد ما لو بقيت ثالثين عاما لما نلته بعيوني سكنت جفوني وأصبحت من قبلة في العراء أغني لعاشقة منحتني الذي يشتهيه الرجال ولم أك أعرف عنوانها واسمها 36

37 واكتفيت بقبلتها ورحيق الجمال ليتها عرفت من أكون ليتني كنت نبضا لقلبين يحترفان الجنون ليتني شاعر مثل ريمبو أقول الذي يختفي في الشفاه ويكبر كالحلم بين العيون وما إن أنهى جان بيار قراءة قصيدته وهم بوضع الورقة في جيبه حتى خطفتها كاترين من يده: - -لم تعد ملكا لك.. - -هي ملك للجسر الحجري.. - -والجسر صار ملكا لنا.. هل تأذن لي بأن أنشر القصيدة في مجلة المدرسة - -هي لك افعلي بها ما شئت.. - -هل لي أن أطلب منك شيئا آخر - -إن كان بإمكاني فليكن.. - -أن أقبلك على خدك األيمن بعيدا عن الجسر.. - -وبعيدا عن عيون الزوار.. واختليا بعيدا إلى أن دق جرس الثكنة معلنا نهاية الزيارة ومعها افترقت كاترين وجان بيار على موعد في كاتدرائية أميان العظيمة إن في الربيع أو الصيف. وقبل توديعها قال لها "أنت المالك الذي يحرسني". فردت عليه "ستحرسنا قبيلة من المالئكة". عادت كاترين إلى أميان ممتلئة سعادة وراحت تعد األيام والساعات.. 37

38 وقف أنطوان وطبع قبلة حارة على جبين جانيت: - -أعرف أنك تعبت.. يكفيني ما سمعت منك هذه الليلة. غدا حدثيني عن كنيسة أميان وطقوس العرس. - -لك ما تريد.. وخرجت جانيت. بينما أعاد أنطوان ترتيب رسائل أبيه وأخذ رسالة أخرى. متليلي في 12 أكتوبر أبي العزيز والرحمة على روح أمي الطاهرة. أكتب لك من الصحراء التي أحببت وأنا أتحسس طريق األب شارل دي فوكو الذي قلت لي مرارا إن على يديه وصلت فرنسا إلى حيث ال تصل العفاريت. متليلي تختلف عن المدن األخرى أهلها أيضا يختلفون عن سكان الشمال. طيبون وال يأمنون األغراب. كتيبتنا تقوم بتأمين الحراسة لقوافل اإلمداد الحربي المتجهة نحو مدن الجنوب عين صالح وجانت وتمنراست. أخبرني قائد الكتيبة أنني سأنتقل في نهاية العام إلى وادي سوف حيث تم إنشاء مركز حدودي ربما توكل إلي قيادته. أقضي أيامي مع الكتابة فهذه الصحراء الموحشة وواحاتها تدفع االنسان إلى أن يكون شاعرا رغم أنفه. إذ صار بحوزتي كثير من األشعار جمعتها في دفتر وأطلقت عليها اسم "بارودة الشمس والورد". وسأهديها للمولود الذي أنتظر قدومه. وإلى كاترين التي علمتني كتابة الشعر على جسر حجري. 38

39 أبي أعرف أنك ما زلت حزينا على أمي التي ماتت بعد إصابتها بنزف في الدماغ في األيام األولى لوصولك سانت ماري بالمارتينيك وما زلت تأسف ألخي جول الذي فقد رجله في مدغشقر. ال عليك فحين اخترنا أن تكون مهنتنا الحرب لم نفكر في شيء اسمه الموت ما دام الخلود ال يناله إال من كانت حرفتهم الموت. أحبك يا أبي بلغ تحياتي لكاترين وال تعتب عليها. قبل ابني عند ميالده وقل له سأعود ومعي كثير من الهدايا. جان بيار ولم تكن الرسالة الثالثة تتضمن أكثر من أربعة أسطر. وادي سوف: 6 ديسمبر 1953 أبي العزيز والرحمة على روح أمي الطاهرة. في الثالث من ديسمبر 1953 تم تعييني على رأس مركز حدودي للمراقبة وال أعرف كم يستمر بقائي في هذا المركز المعزول تماما. معي 12 جنديا وال يوجد سكان كثيرون بالمنطقة. بلغ سالمي لكاترين وأنطوان وكل الذين أحب. جان بيار وكانت الرسالة الرابعة عبارة عن صورة ألبي على كثبان رملية كتب على ظهرها. وادي سوف: 27 ديسمبر 1953 ابني العزيز زوجتي العزيزة 39

40 سامحني يا أبي إن تجرأت على عدم ذكر اسمك في أول الكالم وكذا روح أمي الطاهرة فقد أنستني فرحة والدة ابني الذي انتظرته تحت الشمس الحارقة وفي منافي هذه البالد الوعرة. سامحني وأنت من يعرف معنى األبوة. سامحني ألنني صرت أبا مثلك واغفر لي ما كتبت.. ألف قبلة على جبين أنطوان وألف قبلة على جبين كاترين ولك يا أبي أشواقي جان بيار وتضمنت الرسالة الخامسة من أبي لجدي رسوما يدوية بقلم الرصاص. أربعة أشخاص هم جدي وأمي وأنا وجانيت وجملة واحدة باللون األحمر "اشتقت إليكم جميعا.. أحبكم" وفي ظهر الورقة كتب باللون األحمر أيضا "جان بيار- بئر العاتر 25 سبتمبر 1954 ورقة أخرى ممزقة حاولت تجميعها. إنها قصيدة شعر كتبها في روجي وهو صديق له توفي بسبب لدغة عقرب في منطقة وادي سوف. ألم تكن الرصاصة أرحم يا صديقي أنت الذي كنت تحدثني عن الشمس وعن نساء باريس الضاحكات وتقول لي إنك تعد النجوم كل مساء لتنام ألم تكن رصاصة طائشة أرحم من عقرب ال تعرف شيئا عن بزتك العسكرية وال تسأل عن سر وجودك في الصحراء العقرب ال تحب فرنسا لهذا كان عليك أن تموت 40

41 وكان علي أن أقول لك وداعا أيها الطفل الذي لم تقتله رصاصة الساعة الثالثة صباحا. الحت مني طلة من خلف النافذة المفتوحة قليال على الشارع. رأيت الثلج يسقط في صمت. وقفت أتأمل ذلك المشهد الرائع ثم لم ألبث أن خرجت إلى حديقة البيت الجانبية كان البياض يمأل المكان. كم هي بديعة حديقة جدي. شجرة الصفصاف التي تتوسطها وأغصان األشجار المثقلة بأكوام الثلج وسورها الحجري. وغير بعيد يتراءى برج بيري العالي وكأنه يحرس أميان مثل آلهة اليونان القديمة. الصمت وحده يلف الساحة. وأضواء قليلة خافتة تتبدى من بعض المنازل التى لم يعد يظهر من قرميدها األرجواني سوى حافات المداخن. تمنيت ساعتها لو أن حديقة جدي اختزلت العالم وأن الثلج لم يكن مجرد غطاء أبيض تفترشه األرض إنما كان قصائد تمجد اإلنسان وتزيد كبرياء فرنسا علوا كما يقول جدي. ال أجد مبررا مقنعا يجعلني أقبل كأعمى كل ما يقوله جدي عن فرنسا وتاريخها. في مدرسة الموسيقى تعرفت إلى طالب جزائري كان يدرس الموسيقى الكالسيكية. ولم يكن من ذلك النوع الذي يندمج بسرعة كبيرة في كيانات أخرى. اسمه مصطفى وهو كما قال لي ابن عامل في شركة الكهرباء تم اختياره ضمن خمسة طالب 41

42 لدراسة الموسيقى العالمية اثنان في روسيا واثنان في فرنسا وطالبة في إيطاليا. لم يكن مصطفى يحب الحديث عن فرنسا وتاريخها في الجزائر ويتجنب كل إشارة إلى ذلك لكنني لم أتردد في إثارة الموضوع معه ونحن في مطعم المدرسة: - -أبي قتل في الجزائر وكان عسكريا.. - -وأنا أيضا لي شقيقان سقطا شهيدين في الجزائر.. وليس في فرنسا. - -أمنيتي الوحيدة هي العثورعلى قبر أبي في منطقة سوق أهراس. - -ال أنصحك بأن تفكر في األمر قبل ثالثين أو أربعين عاما.. الدم ال يزال ساخنا. - -أعرف.. لكن ال ذنب لي فيما حدث. - -ذنبك أن لك أبا عبر البحر ليقتل جزائريين لم يعلنوا عليه الحرب. - -أعرف.. وأنا ال أريد أن أخوض معك في نقاش أخسره مسبقا. - -والحل أن تصبر طويال.. - -أعرف أيضا هذا األمر.. وأعرف أنني لن أغير مجرى التاريخ. - -يكفي أن تغير اتفاقيات إيفيان جزءا من هذا التاريخ الذي بقدر ما يهرب منه حكام فرنسا يتواضع أمامه الجزائريون. لم يكن مصطفى كثير الكالم غير أن له ردود فعل غير محسوبة تصل أحيانا إلى الحد الذي يقلب فيه المكان إلى معركة. فقد حدث في أولى أيام 42

43 حرب األيام الستة بين العرب وإسرائيل أن دخل قاعة التدريب على البيانو وآالت اإليقاع الكالسيكية فلما رآه سالمون وجوشوا وهما فرنسيان يهوديان راحا يرقصان ويقومان بحركات مسيئة للعرب ولم تصدر عن مصطفى أي حركة تنبئ بقلقه إلى أن استفزه سالمون: - -إيه.. لماذا لم تلحق بهم في جبهة القتال ال ناصر وال غيره.. كلهم يركلون على مؤخراتهم في باريس ال نتعلم الموسيقى.. بل نتعلمها في تل أبيب على يد الموسيقار موشي دايان. كنا نتابع المشهد وكأننا في مسرح ولم تمض ثوان حتى أمسك مصطفى بكرسي خشبي ورمى به سالمون فأوقعه أرضا ولم يكتف بهذا بل راح يركله على كامل جسمه ولم نجرؤ على التدخل حتى جوشوا تراجع إلى الوراء. ولم يتوقف مصطفى عن ضرب سالومون بل أمسك به وكان قوي البنية ثم أداره نحو منصة التدريب وصار يضربه بعنف على مؤخرته وهو يصرخ: - -اآلن أعلمك الموسيقى يا ابن الزانية.. اآلن.. وليس في تل أبيب.. يا لقيط. كنا أعجز ما يكون عن أن نتدخل لفض الشجار. فقد شعر بعضنا أن سالمون هو من استفز مصطفي لكونه عربيا فآثرنا الحياد وأحجم جوشوا عن الذهاب بعيدا بعد أن رأى غضب مصطفى وهو يتحول إلى 43

44 وحش كاسر في لحظة انفعال وال يمكن إيقافه. ظل مصطفي يركل سالمون ويدفعه بقدمه نحو البيانو وهو يكرر: - -اليوم أعلمك.. اليوم يا كلب. ثم بصق في وجهه مرات عديدة ونظر إلينا باستخفاف وكأني به يقول لنا "أنهيت فعلتي" وخرج بهدوء. ولم يعد منذ ذلك اليوم. علمت من مامادو المالي الذي كان يقاسمه الغرفة أنه عاد إلى الجزائر وأقسم أال تطأ قدماه فرنسا ولو وضعوا برج إيفل في يمينه وقوس النصر في شماله ووضعوا على رأسه تاج لويس العاشر. منذ تلك الحادثة فهمت لماذا فشلت فرنسا في االحتفاظ بالجزائر. وأدركت أن أمثال مصطفى كثيرون ويحسنون ركل اآلخرين من الوراء بأرجل خشنة. أحسست بيد تداعب شعري وأنا أتأمل الثلج يغطى حوض الماء القديم في حديقة جدي. التفت فإذا بها أمي كانت عيناها تلمعان وقد غطت رأسها بمنديل أحمر. لم أر أمي في مثل هذه الحال منذ بلغها خبر مقتل أبي. كانت تكلمني بعينيها. ما أبشع األلم وما اجمل عينيك يا أمي! الحت من نافذة مكتب جدي مالمح وجهه. كان ينظر إلينا ويبكي. كنت أعرف أنه يبكي كطفل. هو يعرف لماذا وأنا كذلك وأمي تعرف كل شيء لكنها لم تقو على قول أي شيء حتى تلك الكلمة 44

45 التي قالتها قبل عشر سنوات. كلمة "دعه" عندما سقط في غرفتها ذات ليلة. فعلتها يا جدي ألنك لم تكن تعرف شيئا سوى الحرب. تلك طبائع أصحاب البزات الرمادية. شعرت أن البرد شديد فأمسكت بيد أمي وعدنا إلى داخل البيت. أبصرت على سرير غرفتها صورة أبي داخل برواز أرجواني. وضعتها على يمينها. هي تحبه ولم تنسه بعد تلك السنوات التي تغير فيها العالم قتلوا كينيدي وكادوا يوقعون العالم في حرب بين أمريكا وروسيا بما أطلقوا عليه أزمة خليج الخنازير بكوبا وحكاية الصواريخ الموجهة شرقا وغربا. وفي هذه الفترة كنا نسمع كثيرا عن يوري غاغارين رائد الفضاء الروسي الذي مات في مقتبل العمر في حادث سير شأنه في ذلك شأن مارلين مونرو الفاتنة األمريكية التي قيل إنها انتحرت. وكنا ال نمل سماع أغاني البيتلز وقليل من األغاني الفرنسية الجميلة. كان الفرنسيون في حيرة بعد الهبوط الكبير للقيمة السياسية للجنرال ديغول فجدي كان يقول لي "إن نجم الجنرال بدأ في األفول". وال يتردد في القول "ترك الجزائر فخرج من التاريخ". عدت إلى غرفتي وفتحت رسائل أبي. وكنت أشعر وكأنني أجالسه وأبادله الحديث. فتحت رسالة أخرى كتبها بتاريخ 27 نوفمبر كتب فيها: إلى أبي العزيز وإلى روح أمي الطاهرة حاليا أنا في منطقة بالصحراء اسمها المنيعة. هي 45

46 ساحرة وجذابة وأهلها طيبون لكنهم ال يحبون أصحاب العيون الزرقاء مثلي. ال تصلنا أخبار التمرد الذي وقع في منطقة األوراس وجهات أخرى في الشمال. نسمع أخبارا تقول إن المتمردين من الجزائريين ينتمون إلى تنظيم مسلح اسمه FLN يتحركون ليال يهاجمون الثكنات ومراكز الدرك والشرطة ويعتدون على الفرنسيين. في المنيعة لم نر هؤالء المتمردين لكن ميشال بارني صديقي المكلف بإدارة الشؤون المدنية قال لي إن حديث الناس في المقاهي والجوامع واألسواق ال يخلو من كلمة FLN وحذرني من التعامل مع العرب عن قرب. ال أريد أن أضعكم في حيرة ولكنني أطلب منكم الدعاء لي بالسالمة. أحبكم. أبي قبل جبين أنطوان بحرارة. وقل لكاترين سأعود. جان بيار. تحسست جبيني الذي دبت فيه حرارة مفاجئة وكأن روح أبي تالمس جبهتي وتطبع قبلة أخرى. أبي الذي ال أذكره إال في الصور. وأسلمت رأسي للنوم. 46

47 2 في عيد ميالدي التاسع عشر. لم يتغير أي شيء. جدي هو جدي ال يمل الحديث عن فرنسا ومجدها. بل أكثر من هذا ال يعجبه زعيم الفيتنام التاريخي هو شي منه ويقول باستهزاء كبير "حتى كناس الشوارع صار عظيما". وأمي كاترين كعادتها ال تبرح مكانها. ال تختلف عن المومياء. أما جانيت الخادمة فإنها أشبه بمالك يحرس البيت من الشرور. قالت لي جانيت وهي تطفئ الشمعة األخيرة في الكعكة التي أعدتها لي مثلما تفعل كل عام "في كاتدرائية أميان راح القس يلقي أمام الحاضرين عظاته ودعا جان بيار وكاترين إلى أن يقبل الواحد منهما اآلخر أمام الشهود إعالنا لرباط مقدس طول العمر.. ففعال وكنت حينها أشتغل في معمل للخياطة وأحضر كل أحد القداس الذي تقيمه الكنيسة. كان يعجبني األب دي كافيللي هو من أصول إيطالية فر من بطش موسيليني والتحق بأميان التي أحبها وتعلق بها كثيرا". 47

48 كانت جانيت تكلمني دون أن تنظر إلي. ترفع رأسها قليال للتعبير عن موقف فيه مرارة أو تحنيه إذا ما تعلق بموقف فيه عاطفة وحرارة. قالت لي "ليتك كنت معنا ذلك اليوم.." فأضحك وأرد عليها برومانسية غريبة "كنت موجودا أسفل الجسر الحجري.. مخبأ في قلبي كاترين وجان بيار". فتضحك جانيت وتقبل جبيني. وتواصل سرد قصة زواج أبي: "الغريب أن الزواج تم قبل أن يتخرج أبوك من الكلية العسكرية وتلك رغبة جدك. كان يوما مشهودا في أميان.. ألن مكانة جدك الكبيرة في أوساط عائالت أميان األصيلة جعلت منه ملكا غير متوج.. فهو بطل في عيوننا جميعا. كل الناس يحبون سماع حكاياته في جبهات القتال. ولم يكن على توادد مع بعض رؤساء بلدية أميان حيث كان يصفهم بالضفادع. بعد الزواج انتقل أبوك وكاترين لقضاء شهر العسل في إسبانيا وحين عادا لم يبق جان بيار طويال في أميان والتحق بكتيبته في تولون لحضور مراسيم التخرج وانتظار قرار الحكومة الفرنسية بإرساله إلى شمال إفريقيا حيث بلغت األوضاع درجة مقلقة. ولعل أسعد الناس بانتقال جان بيار إلى الجزائر هو جدك الذي دعا عددا من رفاقه إلى وليمة في حديقة بيته وظل يرقص حتى آخر الليل". ارتشفت جانيت قليال من الماء وواصلت سرد قصة أبي بينما كنت أرسم تلك الرحلة في مخيلتي بتفاصيلها. - -"كانت أمك حامال في شهرها السابع عندما 48

49 وصلتها الرسالة األولى من جان بيار يخبرها بأن وحدته انتقلت للعمل في الصحراء.." قاطعتها بأنني اطلعت على تلك الرسائل ولكنك ال تعرف لماذا صار اسمك أنطوان - -ال أعرف.. - -والسبب بسيط أن جان بيار كان معجبا بضابط التدريب في تولون واسمه أنطوان فقرر منحك اسمه.. - -لو أن المولود كان أنثى هل كان يطلق عليه اسم أنطوانيت - -ومن تكون أنطوانيت - -أقصد الملكة ماري أنطوانيت. - -ال أعرفها. وواصلت جانيت حديثها عن تلك المشاعر التي تملكتها عندما شاهدت عمي جول وهو يتوكأ على عصا بعد أن فقد رجله اليمنى في انفجار لغم بمدغشقر. - -كان وسيما جدا. ال يرى إال مبتسما وحين تجرأت وسألته إن كان يشعر بالندم الختياره الجيش قال لي أنا مستعد ألفقد الرجل األخرى في الجزائر وأضاف ال تنس أن هذا البيت ليس إال ثكنة غير معلنة في جيش فرنسا.. سكتت جانيت بعد أن لمحت ظل جدي يقترب من الباب وأحنت رأسها خوفا منه بينما كنت أتأمل خطوات جدي المتثاقلة وهي تطأ عتبة الغرفة: - -أكملي القصة يا جانيت.. قولي ألنطوان كل شيء. قولي له إنني عسكري مهزوم وأن أباه ما 49

50 كان ليدخل الجيش لوال أنه رآني أعود مهزوما من جبهات القتال بألمانيا.. وال تغرنكم النياشين التي أزين بها صدري فهي ال تمنح للمنتصرين ألنهم ليسوا بحاجة إلى من يصفق لهم.. بل تمنح ألمثالي أنا ممن كانوا بحاجة إلى من يرفع معنوياتهم المهتزة.. لم نكن أبطاال قط. إن خوفنا من التاريخ جعلنا نصنع المجد المزيف.. قولي له يا جانيت فهو ال يعرف شيئا عن جده. قولي له إنني لم أكن جنراال وال حتى عقيدا ألقود جيشا أو حتى كتيبة.. قولي له. ثم جلس على كرسي خشبي ولم يقل بعدها كلمة. ناولته جانيت كوب ماء. - -ال يا سيدي.. ليس صحيحا ما قلت لماذا تحاول أن تجعل من نفسك بيتان آخر.. أنت آخر جنود فرنسا األوفياء. وأمسكت بيده ثم رافقته إلى غرفته التي تزينها صوره الكثيرة ونياشينه وقبعاته المنمقة حيث يحب النوم قريبا من شباك يطل على الحديقة. لم تعد جانيت. ذهبت هي األخرى إلى غرفتها. بينما بقيت وحدي في الغرفة أتامل ما تبقى من رسائل أبي وأيامه في الجزائر. رسالة من أبي إلى جدي. إن أميناس 29 سبتمبر 1957 أبي العزيز إلى روح أمي الطاهرة أكتب لك وأنا أشعر وكأنني أعيش في الجحيم. فدرجة الحرارة ال تقل عن 45 درجة ومحظوظ من 50

51 عثر على مترين من الظل البارد. إنني في هذه المنطقة منذ أربعة أشهر أشرف على حراسة آبار البترول التي تم اكتشافها في مطلع العام 1956 بمنطقة إيجالح حيث شرعت شركة تنقيب فرنسية في ضخ كميات هائلة من البترول. ولعلمك يا أبي فإن الصحراء تم تقسيمها إلى أربع مناطق لكل واحدة هيئة تشرف على تسييرها. وال أخفي عليك أن العمل بالصحراء بقدر ما هو شاق فإنه يبعث في أمثالي االعتزاز بخدمة بلده وشعبه هكذا تعلمت منك. ولعل الشيء الذي لفت انتباهي يا أبي هو أن الفرنسيين لم يعد يقلقهم أمر ما يحدث في الشمال من مناوشات بين المتمردين والسلطة الفرنسية قدر تعلقهم باكتشاف البترول وقد سمعت من قائد عسكري زارنا منذ أسبوع قوله "ما دام البترول موجودا فلتبق الحرب مائة عام". أصدقائي يطلقون علي "شاعر الصحراء" ألنني ال أتوقف عن الكتابة. ويسعدني أن أبعث لك بنص صغير عن البترول أرجو أن يعجبك: حين أنظر إلى وجوههم ال أرى عرقا أبيض السواد يغطي المكان لكنهم يبتهجون لرؤية البترول يصعد إلى أعلى كأنه نخلة من ماء ويصرخون كل مرة كنا ننظر إليهم بإعجاب وفي آخر اليوم أصرخ أنا وأقول 51

52 يحيا البترول.. تحيا فرنسا أبي لقد اشتقت إلى ابني أنطوان وأمه كاترين ولن أوصيك بهما. وأخبرك أنني طلبت منحي رخصة لزيارتكم في أعياد الميالد القادمة ألنه صار من حقي بعد ثالث سنوات أن أزوركم. تقبلوا تحياتي ابنكم الذي يحبكم كثيرا جان بيار كنت أرى في كل رسالة ذلك الحضور الطاغي لجدي إذ إن أبي مدين في كل ما يكتب لحياة جدي ورغم الحياة القاسية التي كان يعيشها بعيدا عن عائلته الصغيرة قريبا من موت مؤكد فإنه يحمل باستمرار ذلك االمتداد الروحي لجدي الذي زرع فيه عقيدة عسكرية يمكن اختزالها في أن العالم تشكله فرنسا أوال ثم ما تبقى من شعوب. ويحضرني موقف عشته مع جدي عشية االحتفال بذكرى 14 يوليو وهي بالمناسبة يوم مقدس ألمثال جدي وفي حوار ساخن مع بعض العسكريين المتقاعدين قال جدي: - -أرى أنكم ما زلتم تعتقدون أن ديان بيان فو كانت هزيمة لنا.. - -طبعا.. ال يمكننا إخفاء الشمس. رد جورج المعروف في شوارع أميان بالمقاوم بأعصاب متشنجة. - -فرنسا لم تنهزم.. هي التي شاءت أن تخرج. رد عليه جدي في ثقة عالية. 52

53 - -لو كانت قادرة على البقاء لما فكرت في الخروج. أضاف جورج بهدوء بالغ. - -وهل تعتقد أن معتوها مثل جياب قادر على هزيمة جنراالت تخرجوا في سان سير. قال جدي وقد بدت عليه عالمات القلق مما يقوله جورج. - -لكنه هزمهم فعال.. قالها فرانسوا مارياني المعروف في أميان باألعرج. لكن جدي لم ينتظر للرد عليه بعنف: - -أنت تقول هذا.. ألن فيك شيئا من الفاشيست. فانفجر الجميع ضاحكين إال جدي الذي ارتفع ضغط دمه وصار يصرخ في وجوه أصحابه وهم ال يتوقفون عن الضحك وضرب األيدي بعضها ببعض. اآلن فهمت لماذا كان جدي يهاجم أعداء فرنسا أو من يخدشون حياء تاريخها. وحدث أن رأيته مرة يمسك بكتاب جان بول سارتر "عارنا في الجزائر" ويقول "هذا الحثالة النتن.. جعلوا منه كاتبا كبيرا وهو عار فرنسا في كل تاريخها" ثم يرمي الكتاب على األرض ويدوسه بقدميه إلى أن يمزق أوراقه ثم يلقي به في سلة المهمالت. في مساء أحد ماطر دعتني ماري روز إلى حضور حفل نهاية العام الدراسي. كان ذلك في األسبوع األخير من شهر أغسطس وكانت صحة جدي معتلة جدا وأمي على حالها بينما كانت جانيت وحدها تتحرك بين الغرفتين في صمت وتخدمهما بحب كبير. 53

54 التقيت ماري في مدخل المدرسة. كانت أجمل من ذلك اليوم الذي قضيته معها في حانة الرجل ذي الشوارب وعاشق بايرون. - -تأخرت دقيقتين.. قالت ماري وهي تمسك بيدي وتجرني خلفها كخروف وديع لتوصلني إلى كرسي في الصف األول من قاعة الحفل التي زينت بكثير من الورود واألضواء الملونة. ما إن جلست حتى نودي بصوت عال "قفوا لنشيد فرنسا.. المارسييز". وقفنا جميعا. تمنيت ساعتها لو أن جدي كان معنا. إنه يحب كثيرا هذه المواقف. كان يقف إلى جانبي شاب أصلع يضع نظارات طبية بدا لي وكأنه غير مكترث لسماع النشيد فقد كان يحرك رأسه يمينا ويسارا. وما إن جلسنا حتى قال لي: - -لم يبق إال أن نستمع إلى نشيد المهزومين.. هم يقتلون األبرياء في ميونيخ.. ونحن نقف كالموتى لسماع المارسييز. - -ماذا تقصد - -فعلها اإلرهابيون العرب في المدينة األولمبية بميونيخ.. قتلوا عددا من الرياضيين اإلسرائيليين األبرياء. - -ال يعنيني ذلك في شيء.. - -أنا يهمني ذلك.. هل تريدني أن أتنصل من يهوديتي. - -نحن في حفل مدرسي.. 54

55 - -ليكن.. - -وما تتحدث عنه وقع في ميونيخ.. نظر إلي وكأنني المسؤول عما حدث في ألعاب ميونيخ األولمبية ثم أشاح بوجهه عني بينما أطلت ماري روز من وراء الستار لتعلن بدء الحفل. قالت ماري "اسمحوا لي في البدء أن أقرأ نصا شعريا لم أكتبه أنا وال ينسب إلى بول إيلوار وال لويس أراغون.. إنه لرجل فقدته فرنسا قبل ثالثة عشر عاما في الجزائر.. كان محاربا هناك. أنتم ال تعرفونه ألنه لم يكن شاعر المحافل والصالونات.. اسمه ال يعني شيئا بالنسبة إلى كثير منكم لكنه يعني البنه الجالس في الصف األول الرابع على اليمين الشيء الكثير.. وأعني الشاعر جان بيار مالو.. وابنه أنطوان.. أما الجد فليس إال أوليفييه مالو العسكري الذي تحبه أميان وفرنسا.". فاهتزت القاعة بالتصفيق. فهمت لحظتها أن ماري روز كانت تعد لمفاجأة لي. كانت مفاجأة حقا. ثم أكملت ماري كلمتها. يقول جان ماري في قصيدة عنوانها "الريح التي تحملني إلى أميان": للعصافير التي تأتي من الشرق عطور ونسائم وأنا في هذه الصحراء وحدي مربي سرب حمائم ال أرى شيئا سوى ظلي وفي الصبح خياما وعمائم ال أرى أميان 55

56 وال شارعها الممتد في أقصى عيوني ال أرى شيئا سوى صمت جفوني تلك أميان التي أحببت أين كاترين التي أعرف ال ألمحها في هذه الصحراء يا طير المسافات أنا المشتاق لألهل ولألحباب خذ مني سالمي وقليال من كالمي ودموعي.. ألبي البني لكاترين ألميان التي أحملها في دفء روحي إن أنا مت فال تنسوا عظامي.. وبكت ماري روز وبكيت معها بينما كان الحاضرون يهتفون "عاش جان بيار الشاعر.. عاش جان بيار البطل" فأحسست في تلك اللحظة أن أبي لم يكن رجال عاديا.. بل كان واحدا من عظماء فرنسا الذين تمأل أسماؤهم الشوارع والساحات. ولم يكن ألبي اسم وتاريخ محفوظ في زاوية ما. ماري روز هي التي أعادت ألبي تاريخه. صرت أحبها أكثر وأكثر. وقررت لحظتها أن أبحث عن رفات أبي في الجزائر. آه يا جدي.. تمنيت لو كنت معنا. أنت الذي تهزك مثل هذه المواقف أنت الذي ترفع رأسك في كبرياء عندما تذكر ابنيك جول وجان بيار. أنت يا جدي الممتلئ بحب فرنسا. 56

57 لم أعد أذكر من ذلك الحفل المدرسي سوى تلك القصيدة التي أخبرتني ماري روز أنها عثرت عليها في أرشيف أبيها المعلم المتقاعد وعندما سألته كيف حصل عليها أجابها "جان بيار كان صديقا لي.. اختار الخدمة في الجيش بينما فضلت العمل في سلك التعليم ورغم فارق السن بيننا كنا نتواصل بين الحين واآلخر.. ولم أشأ أن أخبرك بهذا حتى ال يكون جان بيار مدعاة لتعلقك بابنه أنطوان..". لم تكن ماري روز تذكر من طفولتها سوى تلك الحياة القاسية بفعل سلوك أبيها العنيف تجاه أمها لكنها صارت تتحدث عنه في آخر عمره وكأنه قديس أو مالك. فذكرت لي أنه توقف عن الشرب وصار يداوم على القداس ويقرأ كثيرا وال يحب لقاء الناس ويعمل على مساعدة الفقراء. كأنه يشعر بالندم. حتى أنه كان يستعير من راهب الفقراء األب بيار قوله "عندما نضع يدنا بيد الفقراء نجد يد اهلل تمسك بيدنا األخرى". هكذا تقول ماري روز فأرد عليها بمقولة سمعت جدي يرددها دائما إذ قال لي مرة "اسمع حكمة رهبان فرنسا في صحراء الجزائر. يقول شارل دي فوكو "بقدر ما نعرف اآلخر نحبه..". ثم يضيف كعادته "إال من يعادي فرنسا". كانت أجمل نساء أميان وكلما أثنى عليها بعض من حضر الحفل ازداد وجهها احمرارا فأكتشف جمالها الدافئ عن قرب. سألتها على حين غرة: - -هل تعرفين بايرون 57

58 ال- فردت ضاحكة: -.. لكنني أعرف حانة بايرون. - -ما رأيك في كأسين من شعر بايرون.. - -إن كان هناك من يرفض بايرون فليس أمامه إال أن يكتفي بخمرة الشعر.. لم يتغير فضاء الحانة. وصاحبها لم يغير شكله والعبث بسيجارته وابتسامته الخبيثة. قضينا أكثر من ساعتين استعدنا فيها كل حكاياتنا القديمة. ولم نشرب حتى الثمالة ألن عيني صاحبنا كانت ترمقنا من وراء المحسب. نظرت إلى الساعة كعادتها. ففهمت أن ماري روز ترغب في الخروج من الحانة. وخرجنا. مشينا طويال. ولم يكن األمر يسيرا علي ألعرض على ماري روز الزواج بعد عام من ذلك اليوم الجميل. ولم تمانع بل إنني أحسست أنها كانت تود سماع ذلك مني. رافقت ماري إلى بيتها وعدت إلى بيت جدي. ولم يكن الباب مغلقا. دفعته بيدي فأبصرت جانيت جالسة في ردهة البيت عيناها شاخصتان في السقف. - -ماذا حدث - -جدك.. واندفعت نحوي تحضنني. أسرعت نحو غرفة جدي. كان الباب مفتوحا وضوء خافت يغطي السرير. مات جدي. أمي جالسة أرضا تمسك بيد جدي الممدد على سريره الخشبي العتيق. 58